بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
قوله: ( لا نَوْءَ ): واحد الأَنْوَاء، والأنْوَاءُ: هي مَنَازِل القَمَر، وهي ثمان وعشرون مَنْزِلَة، كُل مَنْزِلَةٍ لَها نَجْمٌ تَدُور بمَدَار السَّنَة. وهذه النُّجُوم بعضُها يُسَمَّى النُّجُوم الشَّمَالِية، وهي لأيَّامِ الصَّيْف، وبعضُها يُسَمَّى النُّجُوم الجَنُوبِية، وهي لأيَّامِ الشِّتَاء، وأَجْرَى اللهُ العَّادَةَ أنَّ المَطَرَ في وَسَطِ الجَزِيرَة العَربِيَّة يَكُونُ أيَّامَ الشِّتَاءِ، أمَّا أيَّام الصَّيْف؛ فلا مَطَر.
فالعَرَبُ كانُوا يَتَشَاءَمُون بِالأنْوَاءِ، ويَتَفَاءَلُونَ بِهَا؛ فبَعْضُ النُجُوْمِ يَقُوْلُونَ: هَذا نَجْمُ نَحِسٌ لا خَيْرَ فِيْه، وبَعْضُها بالعَكْس يَتَفَاءَلُونَ بِه فَيَقُولُون: هذا نَجْمُ سُعُوْدٍ وخَيْر، ولِهَذَا إذَا أُمْطِرُوا قَالُوا: مُطِرْنَا بِنَوءِ كَذَا، ولا يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ ورَحْمَتِه، ولا شَّك أنَّ هَذَا غَايَةُ الجَّهْل.
أَلَسْنَا أَدْرَكَنَا هَذَا النَّوءُ بِعَيْنِهِ فِي سَنَةٍ يَكُونُ فِيْهِ مَطَرٌ وفِي سَنَةٍ أُخْرَى لا يَكُونُ فيه مَطَرٌ؟
ونَجِدُ السَّنَوَاتِ تَمُرُّ بِدِونِ مَطَرٍ مَع وُجُودِ النُّجُومِ المَّوسِمِيَّة التِي كَانَت كَثِيرًا ما يَكُونُ في زَمَنِها الأمْطَار.
فالنَّوءُ لا تَأْثِيرَ لَه؛ فقَوْلُنَا: طَلَعَ هَذَا النَّجْمُ، كَقَوْلِنَا: طَلَعَتِ الشَّمْسُ؛ فَلَيسَ لَه إلّا طُلُوعٌ وغُرُوبٌ، والنَّوءُ وَقْتُ تَقْدِير، وهُو يَدُلُّ عَلى دُخُولِ الفُصُولِ فَقَط.
وفِي عَصْرِنَا الحَّاضِر يُعَلَّقُ المَطَرُ بِالضَّغْطِ الجَوِّي والمُنْخَفَض الجَوِّي، وهذا وإنْ كَانَ قَدْ يَكونُ سَبَبًا حَقِيْقِيًا، ولكِنْ لا يُفْتَحُ هذا البَابُ للنَّاسِ، بَلْ الوَّاجِبُ أنْ يُقَال: هذَا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، هَذا مِنْ فَضْلِه ونِعَمِه، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (( سورة النور آية :43))، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ}((سورة الروم آية : 48)).
فَتَعْلِيْقُ المَطَرِ بالمُنْخَفَضَاتِ الجَوِّيَة مِنَ الأُمُور الجَاهِلِيَّة التِي تَصْرِفُ الإنْسَانَ عَنْ تَعَلُّقِه بِرَبِّهِ.
فَذَهَبَتِ أَنْوَاءُ الجَاهِلِيَّة، وجَاءَتِ المُنْخَفَضَاتُ الجَوِّية، ومَا أَشْبَهَ ذَلكَ مِنْ الأَقْوَالِ التِي تَصْرِفُ الإنْسَانَ عَنْ رَبِّه - سبحانه وتعالى -.
نعم، المُنْخَفَضَاتُ الجَوِّية قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لنُزُولِ المَطَر، لكنْ لَيْسَت هِي المُؤَثِّرُ بِنَفْسِهَا، فَتَنَبَّه.
... وهَذَا الذي نَفَاهُ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم هو تَأْثِيْرُهَا؛ ولَيْسَ المَقْصُودُ بالنَّفِي نَفْيُ الوُجُود، وأَكْثَرُ مَا يُبْتَلَى الإنْسَانُ بِهَذِهِ الأُمُورِ إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُعَلَّقًا بِهَا، أَمَّا إنْ كَانَ مُعْتَمِدًا عَلى اللهِ غَيْرَ مُبَالٍ بِها؛ فلا تَضُرُّه ولا تَمْنَعُه عَن جِهَةِ قَصْدِه.
انتهى كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله من كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد(1 / 568)
((التفريغ من الشاملة))
* أَلَيْسَت المُنْخَفَضَاتُ الجَوِّية تَأْتي كل سَنَةٍ في فَصْل الشِّتَاء فلماذا لا تُمْطِرُ كُل سَنَة؛ فالأَمْرُ كُلُّه لله {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}((سورة الفرقان:50)).