طلوب : ارو قصته معتمدا نمط السرد
و الآن أترككم مع القصة:
يقف شريدا طريدا وحيدا في نفس الزاوية ، لا ملبس و لا مأوى ، لا أهل و لا أقارب ، في الصباح تراه يبتسم محاولا الصمود في وجوه الناس الذين يُبادلونه نظرات الاشمئزاز ، قلّما تجد من يكلمه أو يحنو عليه فيُدخل السرور على قلبه ، فلا أجد ما يُحيرني في وضعه أكثر من تحمله للضجيج و الدخان طوال اليوم ، كان أصحاب الحافلات يتناوبون على رعايته و الاهتمام به و لو بشكل يسير ، و قد نال مني الحزن و الأسى على حاله فتمنيت أن أعرف ما حلّ به ، أن أبادله الحديث عله يأنس به و يُذهب عنه بعضا من كرده ، فكلما تأملت في حاله ألمّ بي التفكير في أحوال المجتمع ، لماذا كل هذا الاضطراب ؟ أين هي السعادة الاجتماعية في قواميس البعض ؟
و بإذن من والديّ ، صرت أجلب له بعض الطعام و الشراب في طريقي ذهابي إلى المدرسة و هو قاعد لا يُبارح مطرحه ، فكان يُجزل لي الدعاء بما يسرني و يفرحني فكأنه ثلج يتساقط على حرارة قلبي فآنسني ذلك كثيرا .
و لمّا حلّ فصل الشتاء و رحبت به الطبيعة ندُر وجوده ثم انعدم ، فشعرت بشيء يُنغص علي حياتي و رُحت أستشعر غيابه و أفكر في حاله ، ثم إني علمت بعد السؤال عنه أنه يسكن كوخا أقرب منه إلى منزل ، و لكني لم أزره قط . في إحدى اليالي الماطرة الشديدة البرد حتى أحسست أنها مختلفة عن الشتاء ، لم أستطع النوم فقد خطر على بالي فجأة ذلك المشرد فبقيت أتقلب في فراشي و أصبحت قلقلة عليه ، و بعد محاولات عديدة أقنعت والديّ بالذهاب و الاطمئنان على حاله ، بخطوات صغيرة وجدت نفسي أمام عتبة بيته و صوت من الداخل : - تفضلي ، ولجت بسرعة لأجده يُحاول التدفء ببعض الخشب و الغرفة مظلمة ، أحسست لولهة أن الأشباح تُعشش في جدرانها ، لولا لهيب النار و صوت احتراق حبات الكستناء ، تسمرت في مكاني و أنا أحاول عدّ نعم الله عليّ و تأثرت كثيرا بوضعه ، تساءلت من يكون المُذنب في كل هذا و جال في خاطري الأحوال الاجتماعية التي هي ليست سوى نتيجة للفساد السياسي و العجز الاقتصادي ... قطع شرودي : - اجلسي يا ابنتي ، فإني قررت أن أخبرك عن نفسي حتى أزيح همي ، جلست بصمت و الفضول يتملكني كما يتملك المس إنسانا .
بدأ يسرد عليّ قصته الحزينة فأخبرني أنه كان موظفا في إحدى الشركات المتوسطة بعدما نال شهادته الجامعية بامتياز ، أمين و ذو قيم سامية ، عمل بجهد كبير و تفانى في خدمته ، فحرص على جلب المال الحلال و العيش بالحلال ، ترقى في الرتب و حافظ على أدبه و أخلاقه ، إلى أن جاء ذلك اليوم المشؤوم حيث عصفت عليه ريح القدر ... إن أغلب الموظفين يتعاطون الرشوة و يزورون أعمالهم ، يبيعون ضمائرهم لقاء قروش قليلة ، كانت هُناك بعض المناوشات من أجل تمرير صفقة مشبوعة و كان هو المسؤول عن مثل هذه القرارات ، و لما وقع أمام أحد خيارين لا ثالث لهما ؛ فضّل الالتزام بمبادئه دون مدّ اليد إلى الحرام ، أغراه الكثيرون و هدده الأكثر لكنه لم يكترث قط ، فكانت نهايته على يد بعض المسؤولين و العمال المتورطين في الأعمال القذرة . و قد كانت له زوجة عاشت معه السراء و لم تتحمل الضراء فطلقته و شظف العيش بعد عامين من العشرة . و فيما كان قلبي يتقطع ألما على حكايته ، يبكي دما على ما جرى له ، ابتسم لي و أكدّ أنه مسرور جدا لأنه لم يرتشي و لم يخن أحدا ، فقد عاش حياته يرتزق الحلال و سيموت كذلك ، كل ما تحسر عليه هو أن لم يقدر على الإخبار عنهم ، ليس لأنه كان خائفا بل بسبب أنه طُرد نهائيا و لم يعد يُصدقه أحد .
أُعجبت كثيرا بالقصة و أكبرت في عينيّ ذلك المتشرد ، بل و قررت أن يكون قدوتي فلا أقترب على الحرام مهما حدث ... " لا يخلو المجتمع من الأخطاء و المفاسد و لكن يجب التعاون للقضاء عليها " ... هذا ما استنتجته ، ثم عُدت إلى المنزل بعد أن وعدته بأن أستفيد من تجربته و أحافظ لى مبادئي و قيمي .