عادة ما ترتبط المعرفة بالانسان ، لانه هو الوحيد الذي يملك استعدادات فطرية تمكنه من تحليلها ، و أقصى ما يطمح اليه هو ادراك الحقيقة ، والتي تعرف على انها المعرفة الشاملة و الكاملة بالواقع ، ولما كانت مرادفة لما هو ثابت و مستقر اصبحت تتصف بأنها مطلقة ، والسؤال الذي يطرح في هدا المقام هو : هل الانسان قادر بالفعل على بلوغ الحقيقة المطلقة و هو الكائن النسبي ؟ اليس هدا تناقض ؟ لقد تباينت مواقف الفلاسفة ، فمنهم من اقر بوجود حقيقة مطلقة مادامت الاشياء متضمنة لصفاتها في ذاتها و العقل هو المدرك لها ، و في المقابل هناك من يؤكد عدم امكانية بلوغها ، ويرى ان الحقيقة لا تتجاوز النسبية و لا وجود لشيء نهائي يجب الوقوف عنده مادام العالم في تغير مستمر . فأي الموقفين يعبر عن الحقيقة؟.
الموقف الاول :
يرى فريق من الفلاسفة ان الحقيقة المطلقة ممكنة طالما هذا الانسان يملك عقلا مفكرا ، و هنا نجد افلاطون قديما يميز بين عالمين ، عالم المحسوسات و عالم المثل ، فالاول يمثل العالم المادي المحسوس المتغير ، و مجوداته هي بمثابة ظلال و اشباح لعالم المثل ، وهذا الاخير يمتاز بكونه عالم معقول و ثابت كامل ، وفيه توجد النماذج العليا لكل مجوداته ، كما انه خاص بالموهوبين و لا تدركه الابصار و فيه يعاين الفيلسوف سلسلة من المثل كالخير و الجمال المطلقين و الدائرة الكاملة ، لهدا كانت الحقيقة المطلقة مجسدة في الفكر الذي ينتقل بنا من الادنى الى الاعلى او من المحسوس الى المجرد ، وقد جاء افلاطون بنظرية المثل لأن المحسوسات تختلف من صفاتها و لذلك فليس هناك صفة ذاتية مشتركة ، فالهندسة مثلا ليست هي عالم مسح الاراضي و لكن هي النظر في الاشكال ذاتها ، وكذلك عالم الحساب ليس هو علم الجزئيات كما يفعل التاجر بل هو عالم الاعداد هادفا الى الوصول الى درجة العقلانية التامة و عليه اصبحت المثل عند افلاطون تحدد المعيار الذي يجب ان يسير عليه الفرد ، هي عامة و مشتركة لدى الجميع ، معقولة لا حسية ، تطبق في كل زمان و مكان لأنها لا تتأثر بالظروف و التجربة ، وهدا دليل على ان الحقيقة لا توجد في الواقع المحسوس و المتغير يقول أفلاطون:"إذا كانت النفس التي هبطت إلى هذا العالم قد نسيت علمها القديم، فان وظيفتها خلال اقترانها بالبدن أن تطلب المعرفة...ومن الواجب عن النفس الباحثة عن الحقيقة أن تمزق حجاب البدن، وان تنجو من عبوديته وان تظهر ذاتها". حاور هيبياس سقراط: "فقال سقراط لهذه الأخير: لو سالك احد: ما عدد حروف كلمة سقراط؟ وهل عشرة ضعف خمسة؟ هل ستجيبه إجابة واحدة أم أن الإجابات ستختلف باختلاف الظروف ؟ حتما الحقائق الرياضية ثابتة وكذلك الحال بالنسبة للقيم الأخلاقية.
و في السياق نفسه نجد ارسطو يؤكد على صفة المطلقية بالنسبة للحقيقة ، إلا انه يختلف مع استاده افلاطون في الاعتقاد بوجود حقيقة ثابثة مفارقة لهدا العالم ، فكل شيء فيه عبارة عن جوهر – ماهية – و صورة ، و الجوهر هو الحقيقة الثابتة التي يجب على المفكر ان يصل اليها و ان يدركها في شكلها المطلق ، لانه حقيقة لا حقيقة فوقها ، فلكي يوجد الشيء لا بد له من جوهر كنقطة بداية ، هدا الشيء الجزئي المفرد الموجود خارج العقل الدي له صفة مادية لا بد ان توجد له صورة ، والبرهان العلمي لوجود الاشياء يخضع الى معرفة استقرائية ،أي معرفة بالجزئيات ، والمعرفة الحسية لا تخطئ الحكم الصادق ما دام البرهان العلمي يعتمد على الشيىء الظاهر و كان هذا الاساس تساءل كيف تمت هندسة الكون الواسع بإشكال لا نهاية لها وهو لايقبل ان تكون الحركة بلا بداية فلا بد ان يكون الحركة مصدر و هو الله المحرك الاكبر فهو لا يتحرك وهو كائن غير مرئي لا يتغير انه السبب النهائي للطبيعة والقوة الدافعة للاشياء واهدافها ولهذا كانت الحقيقة عند “ارسطو” تكمن في المحرك الذي لا يتحرك ويقصد بالمحرك – الله – الذي يمثل جوهر الوجود
هذا بالنسبة للنظرة الكلاسكية لمشكلة الحقيقة اما اذا نظرنا الى صفة المطلقية للحقيقة في الفلسفة الحدثية فاننا نجد “ديكارت” لا يعترف بالمعرفة الحسية وجعل من الشك الطريق الاساسي لبلوغ الحقيقة و وسيلة في ذلك هي العقل نفسه فالحقيقة عنده هي مالا ينتهي اليه الشك وعلى هذا الاساس لا يكون الحقيقي الا ما هو واضح و بديهي ومتميز او بتعبير اخر ان معايير الحقيقة تتلخص في البداهة و الوضوح ومن هذا المنطلق نستطيع ان نفهم الكوجيتو الديكارتي انا افكر اذن انا موجود فخاصة التفكير هي حقيقة الوجود البشري حسب ديكارت فاذا توقف الانسان عن التفكير توقف عن الوجود ولهذا نجده يؤكد على ان الحكم الصادق يحمل في طياته معيار صدقة وهو الوضوح الذي يرتفع فوق كل شيئ ويتجلى هذا في البديهيات الرياضية التي تبدو ضرورية و واضحة بذاتها كقولنا اكبر اكبر من الجزء وهو القائل ان الاشياء التي نتصورها تصورا بالغ الوضوح و التمييز هي صحيحة كلها يقول ديكارت :"أنا لا اسلم بصدق شيئا قط ما لم أدرك بوضوح انه كذلك". مالبرانش : "هذه الحقائق الأبدية التي يدركها الفهم دائما كما هي أمور من الله أو بالأحرى هي الله ذاته"
أما مالبرانش: "نسمي حقيقة لان 2 ضرب 2 هو 4 أو أن 2 ضرب 2 ليس 5 وهكذا الحقائق ليست إلا علاقات ولكن علاقات حقيقية ومعقولة.
اما بالنسبة “لسبنوزا” فهو يرى انه ليس هناك معيار الحسية خارج عن الحقيقة” فهل يمكن ان يكون هناك شيئا اكثر وضوحا و يقينا من الفكرة الصادقة يصلح ان يكون معيارا للحقيقة ” فكما ان النور يكشف عن نفسه و عن الظلمات كذلك الصدق هو معيار نفسه ومعيار الكذب و في السياق نفسه نجد المتصوفة يعتبرون الحقيقة المطلقة هي الحقيقة الذوقية باعتبارها شعور يستولي على المتصوف عند بلوغ الحقيقة الربانية المطلقة عن طريق الحدس و يصل المتصوف الى هذه الحقيقة بعدة طرق فقد تكون من خلال الاتحاد بالله عن طريق الفناء كما يؤكد على ذلك “ابي يزيد البسطامي” او عن طريق حلول الله في مخلوقاته فيما يذهب اليه “الحلاج” اما الطريق الثالث فيجسد التقاء وجود الخالق و وجود المخلوق اثباتا لوحدة الوجود كما يقول “ابن عربي” ولا يتم له ذلك الا بمجاهدة النفس بدلا من البحث عن الحقيقة الالهية- الربانية- وهذا من خلال الكشف الذي يقابل البرهان العقلي عند الفلاسفة و المتكلمين. يقول “ابو حامد الغزالي”الكشف هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني و الامور الحقيقية وجودا و شهودا الاول طريقة الالهام وهو العلم الذي يقع في القلب بطريق الفيض من غير استدلال ولا نظر بل بنور يقدفه الله في الصدر اما الامور الحقيقية فطريقها الحدس حيث يمكن للشخص المؤيد النفس بشدة الصفاء وشدة الاتصال بالمبادىء العقلية الى ان تحصل له المعارف حدسا وبهذا اصبح المتصوف يصل الى مرتبة الاتحاد بالله حيث يكون الله والمخلوقات حقيقة واحدة هي علة لنفسها و معلولة لنفسها اما السعادة عند الفلاسفة فتتحقق بمجرد اتصال الحكم بالله دون اندماجه في الذات الالهية
وفي السياق نفسه وبعيدا عن النظرة الصوفية نجد ابن رشد فيلسوف قرطبة يرى ان الحقيقة الدينية واحدة ولكن طرق تبليغها متعددة بتعدد طبائع الناس و مستويات إدراكهم العقلي ، و في هذا الإطار يتحدث ابن رشد عن ثلاثة شرائح من الناس هم : أهل البرهان ، و أهل الجدل ، و أهل الخطابة ، و إذا كان مصدر الحقيقة الدينية هو الوحي فهي حقيقة واحدة و مطلقة و لا يمكن الشك فيها من قبل الإنسان المؤمن ، و الشيء نفسه فيما يخص الحقيقة الفلسفية التي تتأسس على البرهان العقلي الذي إذا التزمنا بقواعده فإننا حتما نصل إلى نتائج قطعية .
انطلاقا من هذا رأى ابن رشد أن الحقيقة الفلسفية لا تتعارض مع الحقيقة الدينية لأن كليهما مطلقتان و متوافقتان ، لأن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له
النقد
من هذا أصبحت الحقيقة حسب ما أكد عليه العقليون وحب النظرة الصوفية تتصف بالمطلقة ، لكن بالنظر على هذا التصور من زاوية تطور التفكير و خاصة التفكير العلمي ، فإننا نجد أن النسبية خاصية أساسية من خصائصه ومن الأزمات التي عاشتها المعارف المتوصل إليها من طرف العلماء قديما وحديثا و تغيرها إلا دليل على دلك ، ومن جهة اخرى بماذا نفسر تحول النظام الثابت الذي تخضع له الظواهر الطبيعية ، حيث اصبح في العصر الحديث و المقام ينطبق على بعض الظواهر فقط لهذا فإن الحقيقة نسبية و ليست بإمكان الانسان ان يعتنق المطلق باستعدادات محدودة ، ولذلك فان الايمان بوجود حقيقة مطلقة يجعلنا نلجأ إلى معيار ذاتي باعتبارها مرتبطة بالادراك العقلي ، هدا الاخير لا يخلو من الاعتبارات الشخصية ، حيث تتدخل الميول و الرغبات و الاراء الشخصية لكي تجعل الفكرة صادقة ، بدليل ان قضية حركة دوران الارض حول الشمس التي هي قضية واضحة بالنسبة الينا اليوم ، في حين ان ثباتها كانت فكرة صحيحة لدى خصوم غاليلي ، ولكنها فكرة خاطئة ، لهدا فالشعور بالبداهة و الوضوح و الادراك العقلي لمختلف الموضوعات لا يمكن ان يكون برهانا مطلقا على وجود حقيقة مطلقة ونجد مارتن هيدجر(ضد العقلانيين وفكرة الوضوح)"ان ما يميز الحقيقة هو الاحتفاء والتستر"
الموقف 2. يذهب انصار هذا الموقف الى ان الحقيقة نسبية ومتغير حيث نجد مفهوم الحقيقة عند باشلار: "هي الحقيقة النسبية العلمية لان تاريخ العلوم بين ان الحقيقة ليست نهائية ولا ثابته"
وقد كان لانتشار مختلف النظريات العلمية و الفلسفية في مختلف المجالات المعرفية تأثيرا في جعل الحقائق العلمية تقريبية خاصة مع ظهور النسبية العددية للفيزيائي “اينشتاين” ومن ثمة تبدد الراي الذي اكد على وجود حقيقة مطلقة ، فاتحا المجال لظهور راي مخالف يحكم ةعلى الحقبقة بالنسبية ن وبذلك تجاوز اليقين و المطلقية . ومن دعاة هذا الاتجاه نجد انصار العلوم التجريبية . المعرفة العلمية الذين يؤكدون على نسبية الحقيقة فلا وجود لشيء ثابت حسب نظرية الفيزيائي هايزلبيرغ في علاقات الارتياب التي تؤكد استحالة تحديد موقع الالكترون وسرعته في ان واحد ، والتي طرحت مشكلة الحتمية في العلم ، وبما أن التوقع اصبح مستحيلا في الفيزياء الذرية فالتصور الكلاسيكي للحتمية ينهار تماما ليحل محله الاحتمال .
و الصورة نفسها التي ميزت مجال الفيزياء تنطبق على الرياضيات باعتبار انها كانت تجسد مثالا لليقين و الدقة و الطلقية ، حيث نجد هذا اليقين في عصرنا اصبح نسبي.
و مع ظهور الهندسة اللااقليدية مع لوباتشفسكي 1793-1856 و ريمان الالماني 1826-1866 م – فكانت المسلمة التي وضعها اقليدس و التي اثارت الكثير من الشكوك تلك المعروفة بمسلمة التوازي و تصاغ عادة كما يلي : من نقطة خارج مستقيم يمكن رسم مستقيم واحد فقط موازي للاول ، و على اساس هده المسلمة يبرهن اقليدس على عدة قضايا في مجال الهندسة و منها على الخصوص القضية القائلة : ان مجموع زوايا المثلث تساوي180 درجة .فكانت محاولة لوباتشفسكي – الجريئة قائمة اساسا على البرهان بالخلف حيث حدد مسلمات اقليدس التي تجسد عكس القضية لإثبات نقيض القضية فتوصل الى انه من نقطة خارج مستقيم يمكننا انشاء اكثر من موازي للمستقيم ، وانطلاقا من هدا الافتراض توصل الى عدة نظريات هندسية من دون ان يقع في التناقض ، والنفس الشئ مع ريمان الذي افترض انه من نقطة خارج مستقيم لا يمر أي موازي له ، و هدا ما يؤكد ان الحقيقة في الرياضيات المجردة لم تبق علم دقيق و مطلق و إنما اصبح يتميز بالنسبية .
في بداية القرن 20 م استغل اصحاب النظرة البراغماتية فكرة النسبية العلمية لبناء مذهبهم متخذين المنفعة مقياسا للحقيقة ، واصبحت حقيقة الشئ تكمن في كل ماهو نفعي عملي و مفيد في تغيير الواقع و الفكر معا في هدا يقول وليام جيمس : {{ يقوم الصدق بكل بساطة فما هو مفيد لفكرنا و صائب فيما هو مفيد لسلوكنا }} هكدا فإن الذاتية متناقضة فإذا كنت تعتقد ان اراء غيرك صادقة نسبيا فكانت ترى رأيك صادقا صدقا مطلقا مثلما اعتقدت ان الارض كروية و اعتقد غيرك انها مسطحة يقول جيمس :{{ ان الناس يعتقدون في القرون الماضية ان الارض مسطحة و نحن نعتقد اليوم انها مستديرة ، إذن الحقيقة تغيرت و انت ربما تقتنع بهذا القول و لا يقتنع غيرك }} و بهذا فالحقيقة عند جيمس ليست غاية في ذاتها بل هي مجرد وسيلة لإشياع حاجيات حيوية أخرى ، كما ان استمرار تاريخ الفكر البشري يؤكد على ان الحقيقة لم تستطع ان تتواجد في معزل عن اللاحقيقة و نقصد بذلك نقائض الحقيقة و اضدادها ، فلكي يكون العلم مطلقا نهائيا لا بد ان يكون تاما إلا ان هذا لن يتحقق . يقول بيرنارد {{ يجب ان يكون حقيقة مقنعة باننا نملك العلاقات الضرورية الموجودة بين الاشياء إلا بوجه تقريبي كثير او قليلا ، وان النظريات التي نمتلكها هي ابعد ان تكون حقيقة مطلقة }} إنها تمثل حقائق جزئية مؤقتة و هدا يخالف الموقف الفلسفي المثالي الذي يعتقد الوصول الى الحقيقة المطلقة ، وفي هدا الصدد يقول بيرس : "ان تصورنا لموضوع ما هو تصورنا لما قد ينتج عن هدا الموضوع من آثار علمية لا أكثر " و معنى هدا القول : أن المعارف الصحيحة انما تقاس بالنتائج المترتبة عنها على ارض الواقع
و في الفلسفة الوجودية نجد الفرنسي جون بول سارتر الذي يرى ان مجال الجقيقة الاول هو الانسان المشخص في وجوده الحسي و ليس الوجود المجرد كما في الفلسفات القديمة ، وحقيقة الانسان تكمن في انجاز ماهيته لأنه في بداية امره لا يملك ماهية فهو محكوم عليه بأن يختار مصيره ، و قد عبر سارتر عن فكرته هذه بقوله {{ سأكون عندما لا اكون أي سأكون ما سأكون قد انجزته الى حلول الحلول }} و يقول ايضا :{{ فانا افرغ ذاتي و كياني بأكملها في العمل و انا ما افعله.
اذن الحقيقة حقائق وان المطلقية منها مقيدة بالمذاهب و التصورات
نقد:
لكن بالنظر إلى موضوع الاحكام و القوانين العلمية نجده شيئا واحدا ، وما تغير سوى الآراء ، لهدا لايصح القول بنسبيتها مثلما يعتقد هؤولاء ، بل الحقيقة مطلقة لأن الارض مثلا لايمكن ان تكون مسطحة و كروية في آن واحد من حيث الشكل و إلا وقعنا في التناقض ، كما ان المعارف السابقة ليست كلها خاطئة و تاريخ العلم يؤكد على ان العلماء توصلوا الى معارف جديدة انطلاقا مما هو سائد سابقا لأن العلم ما هو الا حلقات متصلة ، و العالم لا يمكنه ان ينطلق من العدم لذا فالحقيقة صادقة في ذاتها متغيرة بالنسبة الينا .
ومن جهة لا يمكن ان ننكر دور المنفعة في حياتنا العملية ، ولكن ذلك لا يؤهلها لتكون مقياسا للحقيقة ، لان الحقيقة يجب ان تتميز بالشمولية و الموضوعية ، ومنه فالفكر في البراغماتية تكون صحيحة لو انتصرت على الجانب العلمي التجريبي . فالحقيقة اسمى من ان تقتصر في المنفعة فالمنفعة قد تكون مقياسا لما هو مادي ، و لكن لا يمكن ان تكون مقياسا عاما توزن به كل افكارنا و قيمنا ، إنه مطلق يحط من قيمة الانسان ، لأن المنفعة كهدف ننجر عنها تجاوزات لا اخلاقية خطيرة .
أما الفلسفة الوجودية فقد حصرت الحقيقة في الانسان و تجاهلت المواضيع الخارجية التي تكون مصدرا هاما لها ، فالانسان قد يعني نفسه و يدرك حقيقتها ، و الوقت نفسه فهو يتوق إلى ادراك العالم الخارجي الذي ينطوي على الكثير من الظواهر و الاشياء التي تستحق البحث و التنقيب ، ومن جهة اخرى فإن الوجودية تضرب القيم الاخلاقية عرض الحائط ، لأنها تقف في وجه الانسان و تحول دون تحقيق ذاته – ماهيته – و هدا امر غير مسلم به على الاطلاق .
التركيب:
ومن خلال ما تم ذكره نجد هناك من يعتبر الحقيقة مطلقة و البعض عكس ذلك ، لكن الواقع يبين ان الحقيقة العلمية في اطارها الخاص تصدق على كل الظواهر و تفرض نفسها على كل عقل و بهذا المعنى تكون مطلقة فحين نقول ان الماء يتكون من ذرتين من الهيدروجين و ذرة من الاكسجين لا نعني بذلك كمية الماء التي اجريت عليها الاختبار بل نعني أية كمية من الماء على الالطلاق . لا توجد هده الحقيقة في عقل الانسان الذي اجريت امامه الاخنبار بل في كل عقل بوجه عام ، ولكننا قد نكتشف في يوم ما املاحا في الماء بنسب ضئيلة فيصبح الحكم السابق نسبيا يصدق في اطاره الخاص ، و هدا الاطار قد يكون هو المجال الذي تصدق فيه الحقيقة العلمية كما هو الحال بالنسبة لأوزان الاجسام التي يظل مقدارها صحيح في اطار الجاذبية و لكنها تختلف إذا نقلت إلى مجال الفضاء الخارجي لهدا فإن الحقيقة المطلقة كثيرا ما يعبر عنها بالنسبية.
الرأي الشخصي : لكن الرأي الصحيح هو الذي يرى ان المعرفة الانسانية نسبية بين الذات و الموضوع المعروف و هي نسبية تجل كلا منهما مرتبطابالآخر ، وهدا معناه ان العقل إن هو حاول ادراك المطلق فإنه لا يصنع ذلك إلا بالنسبة للمقيد ، كما انه لا يتصور الثبات الا في حالة وجود التغير ، وهذا يعني احتمال احد الامرين
إما ان تكون الحقيقة مطلقة و لاامل في ادراكها من طرف مدرك ، واما ان يدركها مدرك فتنتقل من المطلقية الى النسبية ، يقول ج –س ميل : {{ لا نعرف الشيء إلا من خلال جهة ما هو متميز عن غيره من الاشياء و اننا لا نعرف الطبيعة الا بواسطة احوالنا الشعورية ، ثم ان كل معرفة تابعة للظواهر و ليست هناك معرفة في ذاتها أي مستقلة عن الموضوع المعروف.
حل المشكلةو عليه فإننا نصل الى ان الحقيقة متغيرة حقا نتيجة تعدد مجالات البحث ، لكن تغيرها يأخذ مصطلح التراكمية أي اضافة الجديد للقديم ، ومن ثمة فإن نطاق المعرفة التي تنبعث من العلم يتسع باستمرار ومن هنا يكون انتقال العلم الى مواقع جديدة على الدوام علامة من علامات النقص فيه ، بل ان النقص يكمن في تلك النظرة القاصرة التي تتصور ان العلم الصحيح هو العلم الثابت و المكتمل ، وفي هدا تأكيد على ان الحقائق كلها نسبية و هي متعددة تابعة لمؤثرات بشرية و فكرية ورغم ذلك فإن الانسان يطمح دائما إلى بلوغ الحقيقة الاولى مهما كان مفهوم الثبات.