مولد خاتم رسل الله عليه أزكى الصلوات
في مثل هذا الشهر المبارك قبل 1410 من السنين ولد فخر المرسلين بمكة المكرمة، فاستنار الكون بنور طلعته صلى الله عليه وسلم، وأشرقت الأرض بهذا النور الوهاج حتى انقشعت الظلمات المتراكمة على هذا العام، المتوارثة من القرون الهمجية المتوغلة في الجهل.
وكذلك كان مصير الجهالات التي غشيت العقول على تعاقب أدوار الجاهلية حيث أخذت تزول شيئاً فشيئاً بنور هديه صلوات الله عليه، إلى أن عمَّ فيضه البسيطة واستنارت بصائر الذين آمنوا به استنارة تضئ لهم ما وراء الحجب الظلمانية من الضار والنافع، فتركوا الضار وأخذوا النافع، حتى تمكنوا في أيسر مدة من القيام بأعمال عظيمة عجزت عن عشر معشارها الأمم الأخرى طوال قرون في أقطار الأرض.
ومن استعرض ما كان عليه طوائف البشر من الجهل المطبق والتدهور المطلق في شؤونهم كلها أوان البعثة النبوية، ثم فكَّر فيما تمَّ للمسلمين بعد مبعثه -صلوات الله وسلامه عليه- من عِزٍّ منيعٍ ورقيٍّ باهر في جميع مرافق الحياة، واعتلاء شأنٍ في العلوم والأعمال والأخلاق بما يرضى الله ورسوله اعتلاءً يوازن مقدار تمسكهم بأهداب هذا الدين الحنيف، يجد معجزات فخر الرسل صلى الله عليه وسلم تتجدد على توالي القرون وهكذا إلى انتهاء الحياة البشرية في هذا العالم.
فدونك الطوائف البشرية في عهد الجاهلية، فمنهم طائفة كانوا يئدون بناتهم، ويعبدون الأصنام وما عسى أن يأكلوه أيام المجاعة.
ومنهم أمة كانوا يبيعون أرض الجنة شبراً شبراً للذين يستغلونهم، ويعتقدون في الله أنه شيخ أشمط قاعد على كرسي أبيض الرأس واللحية وحوله الأملاك، تعالى الله عما يفترون.
ومنهم أهل دين يقولون بالتثليث والحلول، وهم عن قضايا العقول ذاهلون -تعالى الله عما يأفكون-.
ومنهم شراذم يتعبدون الأجرام العلوية، ويعتقدون أن الإله قاعد على العرش في السماء قعود المَلِك على سرير المُلك في الأرض -تعالى الله عما يختلقون- إلى غير ذلك من الخرافات التي يستبعد العاقل وجود أناس يعتقدون تلك المخازي في غابر الأجيال.
فبإشراق نور هديه صلوات الله عليه انجلت تلك الظلمات عن طريق دعوة سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، حتى تمَّ للمسلمين ما يعلمه الجميع من المفاخر.
وما لهذا الرسول العظيم من نواحي العظمة جدّ عظيم، وقد عجز كبار أهل العلم عن شرح بعض مزاياه العظيمة، وأنى لمثل هذا العاجز أن يتصدى لبيان ناحية من نواحي ما لهذا النبي الشفيع من الذكر الرفيع ؟ وفي بيان ذلك كتب خاصة حافلة تطلع على شيء من نواحي عظمته صلوات الله وسلامه عليه.
وقد أيد الله سبحانه وتعالى أحب خلقه إليه بأكمل المعجزات وأتم البراهين، وبعثه إلى الناس كافة يدعوهم إلى الدين الأكمل والشرع الأتم، فبه ختمت الرسالة من الله.
والقرآن الحكيم هو معجزته الخالدة، وقد خص أحكم الحاكمين بخاتم كتبه المنـزلة خاتمَ رسله، فبه الكمال والتمام، وبه الختام والاختتام، فلا بأس أن نتحدث عن هذا الكتاب الكريم الذي سعدت هذه الأمة باعتصامها بأحكامه أيام مجد الإسلام، وإنما ذلَّ من ذل بإعراضه عن تعاليمه القويمة.
وهذا القرآن هو الذي جعلنا نميز ما يجوز في الله سبحانه وما لا يجوز فننـزهه عما لا يجوز وصفه سبحانه به، وهو الذي حفزنا إلى الاعتلاء في مرافق الحياة، والأخذ بكل ما فيه إعلاء كلمة الله وإسعاد الأمة، وهو الذي هدانا إلى مراضي الله تعالى في العبادات والمعاملات، وإلى طرق اكتساب الملكات الفاضلة والعلوم النافعة.
ولذلك كانت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في غاية من الاعتناء بالقرآن الكريم كتابة وحفظاً وتحفيظاً ومدارسة لعلومه، وكانت صفة المسجد النبوي كدار للقراء يأوي إليها فقراء الصحابة ممن لا أهلَ لهم، يتدارسون القرآن ويتعلمونه، ثم يعلمونه لأهل البلاد المفتوحة على تجدد الفتوح، وكان جماعة من كبار الصحابة تفرغوا لتعليم الناس القرآن في المدينة المنورة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بها دار للقراء خاصة، وكان لمعاذ بن جبل ثم لابن عباس رضي الله عنهم عناية عظمى بتعليم القرآن وعلومه لأناس لا يحصيهم العد في مكة المكرمة.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه قد علم القرآن وعلومه لعدد عظيم من أهل الكوفة، ويُبلِغ بعضُ ثقات أهل العلم عددَ هؤلاء إلى نحو أربعة آلاف قارئ ما بين متلقٍّ منه مباشرة أو آخذ عمن أخذ عنه.
وأبو موسى الأشعري رضي الله عنه كان أيضاً يصنع صنيعه بالبصرة، وقد حدث الحافظ ابن الضريس أبو عبد الله محمد بن أيوب البجلي في كتابه »فضائل القرآن» عن مسلم بن إبراهيم عن قرة عن أبي رجاء العطاردي البصري أنه قال: »كان أبو موسى يطوف علينا في هذا المسجد -يعني مسجد البصرة- فيقعدنا حلقاً حلقاً يقرئنا القرآن» اهـ.
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يعلم القرآن في كل يوم من طلوع الشمس إلى الظهر، ويقسم المتعلمين عشرة عشرة ويعين لكل عشرة عريفاً يعلمهم القرآن، وهو يشرف على الجميع يراجعونه إذا غلطوا في شيء، راجع تاريخ دمشق لأبي زرعة وتاريخ ابن عساكر.
ولو أخذنا نسرد ما لأصحاب هؤلاء في الأمصار من السعي الحثيث في تعليم القرآن والتفقيه في الدين في أمصار المسلمين لطال الكلام.
وها هو الإمام ابن عامر الدمشقي صاحب أبي الدرداء وأحد الأئمة السبعة من القراء كان له وحده أربعمائة عريف، يقومون بتعليم القرآن تحت إشرافه -وهو الإمام الذي يجترئ على قراءة مثله الشوكاني والقنوجي بدون وازعٍ لهما، مع خطورة الكلام على القراءة المتواترة.
وفي المجلد الثاني من النشر الكبير لابن الجزري بحثٌ ممتعٌ في هذا الصدد، يردع أمثالهما من الخاطئين أو المخطئين المتحاملين على القراءات المتواترة.
وطريقة ابن عامر هذه هي طريقة الآخرين من أصحاب ابن عباس وأصحاب علي وابن مسعود وأصحاب أبي موسى رضي الله عنهم في التعليم.
وهكذا كان القراء في سائر الأمصار يجرون على هذا النمط في تعليم القرآن.
وكان الصحابة والتابعون يتعلمون فقه القرآن عند تعلمهم آيات القرآن، وقد أخرج الحافظ أبو بكر جعفر بن محمد الفريابي في كتابه »فضائل القرآن» وقال: «حدثنا محمد بن عبيد بن حساب، ثنا حماد بن زيد، ثنا عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: إنما أخذنا بالقرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الآخر حتى يعلموا ما فيهن من العمل. قال: فتعلما العلم والعمل جميعاً، وإنه سيرث القرآن بعدنا قوم يشربونه شرب الماء لا يجاوز هذا وأشار بيده إلى حنكه » اهـ.
وأبو عبد الرحمن السلمي هذا تلقى القرآن من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو عمدته فيه، وقد عرض القرآن أيضاً على عثمان وزيد رضي الله عنهما، وعنه أخذ السبطان الشهيدان رضي الله عنهما القرآن، وكان ذلك بأمر علي كرم الله وجهه.
وهكذا كانت الصحابة والتابعون في العناية بتعليم القرآن وتفهيم أحكامه وهكذا سار من بعدهم على سننهم مدى القرون يحفظه في كل طبقة من لا يحصيهم العدّ في كل قطر، حتى إذا أخطأ تالٍ في حرف من القرآن في قرى بعيدة عن المدن يجد هناك من يرده إلى الصواب، وهذا أمر لم يسبق لكتاب من الكتب في تاريخ البشر، وهكذا صدق الله وعده في حفظه.
ومن المعلوم أن القرآن الكريم تتفاوت دلالة آياته على المعاني وضوحاً وخفاء، ولو كانت آياته تتساوى في دركها الأفهام -كمواد القوانين الوضعية- لخمدت الهمم وركدت الأفهام، يشملها الغباء لعدم وجود ما يحمل على الغوص والتفكير العميق.
لكن الله جلت حكمته جعل القرآن بحيث تختلف الأفهام والقرائح في إدراك أسراره واجتلاء معانيه، فاحتيج إلى علوم تساعد في تفهم أسرار الكتاب الحكيم، فلذلك دُوّنت العلوم العربية من مفردات اللغة والاشتقاق والصرف والنحو والبلاغة وما إلى ذلك من علوم اللسان.
ولذلك أيضاً دوّن علم أصول التفسير وعلم أصول الدين وعلم أصول الفقه والجدل والتاريخ ونحو ذلك مما يفيد في معرفة مراتب الحجج والأدلة، وفي إدراك مواطن العبر من أنبائه.
وقد فاض كل هذه العلوم من القرآن الكريم زيادة على ما أفاده من العلم بالله وبمراضيه في العبادات والاعتقادات والمعاملات واكتساب الملكات والنظر في ملكوت السموات.
وما ألفه أهل العلم في اجتلاء روائع المعاني من القرآن الكريم مما لا يكاد يحصيه العد على اختلاف مسالكهم في العناية بالرواية أو الدارية وفنون الأفنان من علوم القرآن، وعلى تفاوت أذواقهم ومشاربهم في الاهتمام بجهة خاصة من مزايا القرآن المجيد.
وأرجو القارئ الكريم أن يسمح لي أن أذكر بعض مؤلفات علماء هذه الأمة في هذا الصدد مما يكون أنموذجًا لمساعيهم الجبارة في مضمار تدوين المؤلفات:
فها هو تفسير الإمام أبي الحسن الأشعري المسمى »المختزن» في سبعين مجلداً على ما يذكره المقريزي في الخطط.
وتفسير القاضي عبد الجبار الهمذاني المسمى «المحيط» في مائة سِفر.
وتفسير أبي يوسف عبد السلام القزوني المسمى »حدائق ذات بهجة» أقل ما يقال فيه إنه في ثلاثمائة مجلد، وكان مؤلفه وقَفَه وجعل مقره مسجد الإمام أبي حنيفة ببغداد ثم صار في عداد الكتب التي ضاعت في أثناء استيلاء المغول على دار الخلافة ببغداد إلا أني سمعت من أحد أدباء الهند: أنه رأى قطعة منه في أحد فهارس الخزانات.